مؤامرة السودان الكبرى- نيران داخلية وأطماع خارجية.

المؤلف: عزمي عبد الرازق11.05.2025
مؤامرة السودان الكبرى- نيران داخلية وأطماع خارجية.

في فجر يوم السبت الموافق 15 أبريل/نيسان 2023، استيقظ الشعب السوداني على وقع دويّ هائل من الرصاص المتواصل وأزيز الطائرات الحربية، وشاهدوا ارتالاً من ناقلات الجنود تجوب شوارع العاصمة الخرطوم، بينما استولت قوات الدعم السريع على مواقع استراتيجية حيوية مثل القصر الجمهوري، والمطار الدولي، ومبنى الإذاعة والتلفزيون الوطني، مُحكمةً بذلك قبضتها عبر وحدات الحراسة التابعة لها المتمركزة هناك. لم يكن يخطر ببال أحدٍ إطلاقًا أن تتسع دائرة الاقتتال لتشمل أجزاء واسعة من ولايات السودان المختلفة، وأن تستمر هذه الحرب اللعينة لعام كامل بكل ما يحمله من دمار وويلات، دون أن تلوح في الأفق أي إجابات شافية لتساؤلات مُلحة ومقلقة حول الشرارة الأولى التي فجَّرت هذا الصراع، وكيف تفاقم الوضع بهذه السرعة المذهلة، ومن يقف خلف هذا الكم الهائل من الخراب والدمار، وما هي دوافعه الخفية وأهدافه النهائية؟

نيران ساعة الصفر

في حوالي الساعة التاسعة صباحًا، تحركت قوة قوامها ما يقارب ستمائة سيارة لاند كروزر بيك أب مُجهزة برشاشات ثقيلة ومدفعية مضادة للطيران، وحاصرت القيادة العامة للقوات المسلحة وبيت الضيافة، وهو المقر الذي يقيم فيه رئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان؛ وكان الهدف المعلن هو القبض عليه أو تصفيته جسديًا، ولكن هذا المخطط الخبيث اصطدم بمقاومة شرسة من قوات الحرس الرئاسي، التي تصدت ببسالة وشجاعة لا مثيل لها لنيران ساعة الصفر.

تجدر الإشارة إلى أن شرارة الحرب قد اندلعت بالفعل قبل ذلك بأيام قليلة، عندما اقتحمت قوات الدعم السريع مطار مروي الواقع في شمال السودان، واحتجزت عددًا من الضباط المصريين الذين كانوا يشاركون في دورة تدريبية مشتركة، وذلك بموجب بروتوكول التعاون العسكري المُبرم بين السودان ومصر. كان (حميدتي) أو العقل المدبر الذي يقف خلفه يهدف إلى تعطيل جميع المهابط الحربية في البلاد بعد الاستيلاء عليها، ولكن هذه المهمة باءت بالفشل الذريع، مما أدى إلى إجهاض خطة الانقلاب العسكري في مهدها، وذلك لسببين رئيسيين:

أولهما: فشل قوات الدعم السريع في قتل أو اعتقال قائد الجيش السوداني، وثانيهما: التدخل السريع لسلاح الطيران الحربي الذي انقضّ على مواقع ومعسكرات الدعم السريع في الساعات الأولى من المعركة، وكبّدهم خسائر فادحة.

أكبر مؤامرة في تاريخ السودان

حجم التدخلات الخارجية السافرة في هذه الحرب يفوق التصور والخيال، فالسودان – وبدون أدنى مبالغة – يواجه عدوانًا غاشمًا من سبع دول ومنظمات إقليمية ودولية مختلفة تسعى لتقويض استقراره ونهب ثرواته. ويكفي دليلًا على ذلك أن الحكومة السودانية القائمة قد تقدمت بشكوى رسمية إلى مجلس الأمن الدولي في هذا الشأن، تتهم فيها أطرافًا بعينها بدعم التمرد وتقويض الأمن القومي. وقد أشار الفريق البرهان في أحد خطاباته الموجَّهة إلى الشعب السوداني، إلى أن البلاد تواجه ما وصفه بـ«أكبر مؤامرة في تاريخها الحديث تستهدف كيانها ووحدتها وهويتها ومصير شعبها الأبيّ».

ومما يزيد من خطورة وأهمية هذه المعلومات على أرض الواقع، أن الحرب الدائرة في جوهرها هي صراع بين القوات المسلحة السودانية وآلاف المرتزقة الأجانب الذين ينتشرون على نطاق واسع داخل الأراضي السودانية، ويتسللون عبر الحدود التي تقع خارج نطاق سيطرة الجيش. ولا يعلم حتى (حميدتي) نفسه، المتواري عن الأنظار في مكان مجهول، الحجم الحقيقي لتلك القوة الغاشمة التي تضاعفت أعدادها مرات ومرات بعد اندلاع الحرب.

تشير بعض التقديرات الموثوقة إلى إدخال ما يزيد على ثلاثة ملايين قطعة سلاح مختلفة الأنواع والأحجام إلى السودان خلال السنوات الأخيرة، في الوقت الذي قامت فيه قوى خارجية معادية بتدريب وتسليح آلاف المقاتلين المرتزقة، وزجَّت بهم في أتون الحرب السودانية.

وقد تجلى ذلك بوضوح في العديد من مقاطع الفيديو والصور الفوتوغرافية، بالإضافة إلى اعترافات الأسرى أنفسهم الذين ينتمون إلى دول أفريقيا الوسطى وتشاد وجنوب السودان وإثيوبيا، والذين يرتدون جميعًا زي قوات الدعم السريع، ويتسللون عبر تحركات وموجات فزع في ولايات غرب ووسط السودان، وعلى رأس هؤلاء المرتزقة يقف زعيم حركة "نضال مظلوم" التشادية، حسين الأمين جوجو.

وفي سياق متصل، تحدثت تقارير صحفية عالمية عن رصدها تحركات مشبوهة لعناصر تابعة لشركة فاغنر الروسية في إقليم دارفور المضطرب، وباتت هذه الرقعة الجغرافية من أرض السودان بؤرة ساخنة تتقاطع فيها مصالح ونيران القوى العظمى، وعلى وجه التحديد روسيا وفرنسا اللتان تتنافسان على النفوذ في المنطقة.

ورطة الاتحاد الأوروبي

العديد من هؤلاء المرتزقة يتقاضون أجورًا مجزية مقابل القتال، ولكنهم يجهلون تمامًا أسباب ودوافع هذا القتال العبثي. وبالعودة إلى الظروف التي أدت إلى تجميع هذه القوة الأفريقية العابرة للحدود، يمكن القول بأن (حميدتي) قد استثمر بشكل خبيث في الدور الذي أوكله إليه الاتحاد الأوروبي في مكافحة الهجرة غير الشرعية، ولذا فقد تغاضوا عمدًا عن جرائمه البشعة في دارفور، وسمحوا له بإنشاء معسكرات تدريب في المناطق الحدودية بين السودان وبعض دول الجوار، وتجميع المهاجرين الأفارقة في تلك المعسكرات وضمهم إلى قوات الدعم السريع، لتتحول هذه القوات بُعيد ذلك إلى قوة ضاربة متعددة الجنسيات، بتمويل غربي سخي، وتحت السيطرة الظاهرية لآل دقلو.

وقد بلغت الأمور ذروتها لدرجة أن أعداد تلك القوات تضاعفت خلال ثلاث سنوات فقط، من 27 ألف مقاتل إلى 200 ألف مقاتل، وعلى الأرجح أن الهدف الحقيقي من وراء إنشاء هذه القوة الهائلة كان السيطرة بالقوة المسلحة على عدد من الحكومات الأفريقية، سواء كان ذلك عن طريق الانقلابات العسكرية المدبرة، أو عن طريق الهجوم المباشر، وصناعة ما يعرف بالفوضى الخلاقة التي تتيح لهم تحقيق أهدافهم الخبيثة!

وهي نفسها القوات التي شاركت بفاعلية في إطاحة نظام الرئيس عمر البشير، وفي تنفيذ انقلابات عسكرية في العديد من دول الساحل الأفريقي، واليوم تهاجم الجيش السوداني في الفاشر والأبيض والخرطوم، وكثير من عناصرها تم تدريبهم على أساليب حرب المدن، مما يؤكد أن المؤامرة قد نُسجت على مراحل متأنية، وكان الهدف النهائي منها هو التخلص من الجيش السوداني، باعتباره النواة الصلبة لتماسك الدولة، ومن ثم التفرُّغ بعد ذلك لمشروع جمع ونهب موارد السودان الغنية.

سيناريوهات المقاول الأبيض

ولأن المقاول الخفي الذي صمم سيناريوهات هذه الحرب القذرة يفضل ألا ينكشف أمره، فقد عمل بجد على تسميم عقول الناس ببروباغندا سياسية خادعة، ومنح حربه شعارات زائفة مثل جلب الديمقراطية المزعومة، والقضاء على دولة 56، وهو تاريخ استقلال السودان.

كما تسربل المقاول بديكورات ثورية براقة، مع إطلاق يد الجند لتعذيب الأسرى بوحشية، وهتك الأعراض، وتدمير البنى التحتية الحيوية، واستباحة كل ما هو موروث، وارتكاب جرائم حرب فظيعة، لم تبالِ بها منظمات حقوق الإنسان المتواطئة؛ من أجل أن تنعم أوروبا بالرخاء والطمأنينة، بعد أن حشوا خزائنها بالذهب والمحاصيل الزراعية وجلود الحيوانات القادمة من الغابات السودانية، والاستفادة القصوى من المياه والأراضي الزراعية الخصبة في السودان، لا سيما أن حروب المياه تلوح في الأفق القريب بسبب أزمة الغذاء العالمية المتفاقمة.

وقد طفت على السطح مقدمات النزاع على حصص مياه نهر النيل، والخلافات المتزايدة حول قيام سد النهضة الإثيوبي، الذي يهدد الأمن القومي المصري والسوداني على حد سواء، وبالتالي يحتاج السودان إلى تشكيل رؤية إستراتيجية واضحة للتعامل مع هذه الأزمة الخطيرة.

الفوضى وفاتورة التهاون

هناك فوضى جزئية أو شاملة تبعًا لرغبة المستفيد من بقاء الدعم السريع – بشكل جزئي – تابعًا له أو تدميرها بشكلٍ كامل، والراجح أنه سيتم التخلص من (حميدتي) بعد استنفاد الغرض منه، والاحتفاظ بالدعم السريع لاستكمال المهمة القذرة، فالمؤامرة تحتاج إلى عملاء مطيعين بلا طموحات سياسية، ظهرت منهم عينة في المؤتمر الإنساني الذي تستضيفه باريس هذه الأيام بشأن الوضع المأساوي في السودان.

من سمات الحياة العامة في السودان عدم الاكتراث واللامبالاة، ولذلك يدفع الشعب السوداني فاتورة باهظة الثمن نتيجة هذا التهاون والإهمال. وقد أجبرت الحرب الملايين من السودانيين على النزوح بعيدًا عن ديارهم وأراضيهم، وهو أمر لا ينفصل عن تفاصيل المؤامرة الخبيثة، التي تهدف إلى دفع السودانيين للهروب من بلادهم مُكرهين، وتوطين مجموعات سكانية أخرى بديلة في سياق التغيير الديمغرافي الممنهج، وتقسيم السودان إلى عدة دول متناحرة، كما حدث في الجنوب وانتهى بإقامة دولة فاشلة وترْكها لمصيرها القاتم والمأساوي.

ولعل وضعية السودان المحفزة لهذا الخراب، قد لخّصها المفكر الراحل أبو القاسم حاج حمد في عبارته الشهيرة: "عروبة تقليدية متعسرة الانفتاح مقابل أفريقية هلامية الأطراف"، ولكن من يكترث من الوطنيين المخلصين! وأين أشقاء السودان والمشفقون عليه؛ لمساعدته في تجاوز هذا المأزِق التاريخي العصيب؟

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة